- +212700471929
- karkariya.africa@gmail.com
- Lun - Dim: 9:00 - 20:00
السِّيَاحة: الضرب في الأرض بقصد العبادة أو التنـزُّه أو التفرُّج .
الانطلاق بغير مكان في المكان والسّيرُ بغير زمان في الزمان على مبدأ التّجريد ومراتب الصّمدية اعتبارا بآثار القدرة، لنفي السِّوَى والعوائق وخرق حجب الدقائق واستجلابا لذوق الجذبة على منشأ دوائر حركة العشق في دائرة الإمكان لتحطيم آلهة الأنا.
وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم ثلاث مرات، بصيغ مختلفة، منها قوله تعالى:
“التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ”.
“فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ”.
عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رجلا، قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة، قال: ” إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله “ هذا حديث صحيح الإسناد.
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام.”
عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن لله ملائكة سياحين في الأرض فضلا عن كتاب الناس، فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى بغيتكم، فيجيئون فيحفون بهم إلى السماء الدنيا، فيقول الله: على أي شيء تركتم عبادي يصنعون؟ فيقولون: تركناهم يحمدونك، ويمجدونك، ويذكرونك، قال: فيقول: فهل رأوني؟ فيقولون: لا، قال: فيقول: فكيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك لكانوا أشد تحميدا، وأشد تمجيدا، وأشد لك ذكرا، قال: فيقول: وأي شيء يطلبون؟ قال: فيقولون: يطلبون الجنة، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا، قال: فيقول: فكيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها كانوا لها أشد طلبا، وأشد عليها حرصا، قال: فيقول: فمن أي شيء يتعوذون؟ قالوا: يتعوذون من النار، قال: فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا منها أشد هربا، وأشد منها خوفا، وأشد منها تعوذا، قال: فيقول: فإني أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: إن فيهم فلانا الخطاء لم يردهم إنما جاءهم لحاجة، فيقول: هم القوم لا يشقى لهم جليس “. قال أبو عيسى: هذا حسن صحيح.
اعلم أيها المريد أنه لما كان الوجود واحدا في دوائر الإمكان كان محل التحيز أيضا واحدا في عالم الناسوت أو ما يسمى بعالم الأشباح الجسمانية أو عالم الملك وهو عالم الجهات الست الحسية. فمن كان مسجونا في حسه محصورا في هيكل ذاته فهو من عالم الأشباح، ومن انخرق له في قلبه كُوَّةٌ إلى عالم الأنوار وزالت عن عينه نقطة الغين وبرزت له أقمار المعارف وشموس اللطائف فرأى الكون نورا محضا فذاك عالم الأرواح. وكل العوالم لها محل واحد من غير تراتب ولا فوقية حسية، وإنما التفاضل والفوقية معنوية فالمحل واحد والنظرة تختلف، فإذا كان هناك مثلا ثلاثة أشخاص في السوق يبيعون وواحد منهم يرى الناس والخضر والفواكه، والآخر يرى نور الله أينما توجه والثالث انمحق في الأنوار وفني كليا، فالناظر لهم يراهم في نفس المكان والزمان لكن شتان بين الأول والثاني وشتان بين الثاني والثالث. فسياحة الأشباح هي السير على إحاطة دائرة الإمكان والتفكر في عِظم الصنعة لتليين قاف القلب حتى يتمكن المريد من خرقها والدخول إلى لبّ قلبه. فالسياحة الناسوتية غايتها اكتساب الدليل والبرهان على عظمة القادر المنان وكذا منع القلب من الاستئناس بأوتاد النفس ومحبوباتها المذكورة في قوله جل وعلا “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ”. فالشاهد عندنا قوله تعالى ” ومساكن ترضونها ” فالسكون عند العوام سوء أدب في حقهم لفقدهم نور المشاهدة الذي هو بُراق السياحة الروحية، لذلك كانت الحركة واجبة عليهم للتقرب للمولى جل وعلا من باب “من أتاني يمشي أتيته هرولة” فوجب عليهم المشي والسياحة في مَنَاكب الإحاطة الأرضية الناسوتية لتحريك ناعورة دوائر العشق في بواطن قلوبهم وحتى يصل ماء الشوق إلى لب أفئدتهم.
يقول ابن عجيبة قدس الله سره في البحر المديد :” الهجرة من أوطان الغفلة واجبة، ومفارقة الأصحاب والعشائر الذين لا يوافقون العبد على النهوض إلى الله فريضة، فيجب على المريد أن يهاجر من البلد التي لا يجد فيها قلبه، ولا يجد فيها من يتعاون به على ربه كائنة ما كانت، وما رأينا ولياً قط أنتج في بلده، إلا القليل، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم من وطنه إلى المدينة وحينئذ نصر الدين، بقيت سنة في الأولياء، لا تجد ولياً يعمر سوقُه إلا في غير بلده، ويجب عليه أيضاً أن يعتزل من يشغله عن الآباء والأبناء والأزواج والعشائر، وكذلك الأموال والتجارات التي تشغل قلبه عن الله، بعد أن يقيم في أولاده حقوق الشريعة، فاللبيب هو الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة، فلا يضيع من يعول ولا يترك حق من يتعلق به من الزوجة أو غيرها، ويذكر الله مع ذلك، فيخالطهم بحسه، ويفارقهم بقلبه، فإن لم يستطع وأراد دواء قلبه فليخير الزوجة، ويُوكل من ينوب عنه في القيام بحقوق العيال، حتى يقوى قلبه ويتمكن مع ربه.”
فمن لا حظ له في سياحة الأرواح فليجتهد في سياحة الأشباح في تحقيق مقامات السير من جوع وصبر وتقشف وخفض الجناح للغير، وتحمل الأذية والتوكل وإلا فما سياحته غير انتقال من كون إلى كون كما جاء في الحكم “ لا تَرْحَلْ مِنْ كَوْنٍ إلى كَوْنٍ فَتَكونَ كَحِمارِ الرَّحى يَسيرُ وَالمَكانُ الَّذي ارْتَحَلَ إلَيْهِ هُوَ الَّذي ارْتَحَلَ عَنْهُ. وَلكِنِ ارْحَلْ مِنْ الأَكْوان إلى المُكَوِّنِ، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}. وَانْظُرْ إلى قَوْلِهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -“فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسولِهِ، وَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصيبُها أو امْرأةٍ يَتَزَوَّجُها فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ”. فافْهَمْ قَوْلَهُ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -وَتَأمَّلْ هذا الأمْرَ إنْ كُنْتَ ذا فَهْمٍ”
قال ابن عجيبة في شرح الحكم ” الرحيل من الكون إلى الكون هو الرحيل من السوى إلى طلب السوى وذلك كمن زهد في الدنيا وانقطع إلى الله يطلب بذلك راحة بدنه وإقبال الدنيا عليه لقوله صلى الله عليه وسلم:” من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب” ولقوله أيضاً “من كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي صاغرة”، وكمن زهد فيها يطلب الخصوصية كإقبال الخلق والعز وتربية المهابة في قلوب الناس، أو زهد فيها يطلب الكرامة وخوارق العادات، أو زهد فيها يطلب القصور والحور، فهذا كله رحيل من كون إلى كون فمثله كحمار الطاحونة يسير الليل والنهار وهو في موضعه فالذي ارتحل منه هو الذي أرتحل إليه.
فمن كانت همته الحظوظ النفسانية فحاله حال حمار الساقية في السير دائم وهو في موضعه قائم يظن أنه قطع مسافة مما طلب، وما زاد إلا نقصاً مع تعب، قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه:” قف بباب واحد لا لِتُفْتَح لك الأبواب تُفْتَح لك الأبواب، وأخضع لسيد واحد لا لتخضع لك الرقاب تخضع لك الرقاب، قال تعالى “وأن من شيء إلا عندنا خزائنه” فينبغي لك أيها المريد أن ترفع همتك إلى الملك المجيد فترحل من رؤية الأكوان إلى طلب شهود الملك الديان، أو ترحل من الدليل والبرهان إلى رتبة الشهود والعيان، وهو غاية القصد وبلوغ المنتهى، “وأن إلى ربك المنتهى” ولا ترحل من كون إلى كون بأن تترك حظاً من حظوظ نفسك طلباً لآخر فتكون كحمار الرحى الذي سار منه هو الذي عاد إليه، وتشبيهه بالحمار دليل على بلادته وقلة فهمه إذ لو فهم عن الله لرحل عن حظوظ نفسه وهواه قاصداً الوصول إلى حضرة مولاه، فلا ترحل أيها المريد من كون مخلوق إلى كون مخلوق مثلك، ولكن ارحل من الكون إلى المُكَوِّن وأن إلى ربك المنتهى، والرحيل إلى المكون يكون بثلاثة أمور الأول قَصْر همتك عليه دون ما سواه، حتى يطلع على قلبك فلا يجده محباً لسواه، الثاني الرُّجْعَى إليه بإقامة الحقوق والفرار من الحظوظ الثالث دوام اللجوء إليه والاستعانة به والتوكل عليه والاستسلام لما يورده عليك، قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه:” أربعة من كن فيه أحتاج الخلق إليه وهو غني عن كل شيء، المحبة لله والغنى بالله، والصدق واليقين الصدق في العبودية واليقين في أحكام الربوبية من أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون”.